الأربعاء، 9 ديسمبر 2009

مهوّنة


إن أغلب من ابتلي بالسجن في أحد المعتقلين السياسيين في ليبيا ( بوسليم و عين زارة ) لابد أن يعرف هذه الكلمة جيداً ( مهوّنة ) ، هذه الكلمة التي تحمل في طياتها المواساة و التصبير و الدعاء بتهوين المصيبة ، يواسي بها المعتقلين بعضهم بعضا حتى عبر الأبواب الحديدية الموصدة و عبر الجدران الإسمنتية الباردة ، فكثيراً ما يطلقها أحد السجناء لتشق سكون المعتقل الرتيب فتجيبها أصوات من عدة اتجاهات من سجناء آخرين قابعين في زنزانات أخرى ( و عليك ) ، و أحياناً يرتفع صوت ليقول ( مهونة يا ليبيا ) فتجيبه الكثير من الأصوات ( و عليك ، و عليك ) .

تشهد الساحة الليبية منذ فترة حراكاً غير مسبوق ، و تغيرات لم تكن معهودة سابقاً ، و لو بالنسبة لأبناء جيلي على الأقل . قد تختلف الآراء حول تقييم هذه التغيرات و لكن لا أعتقد أن هناك من ينكر وجودها . أنا شخصياً لا أنكر أن هناك سقفاً أعلى نسبياً لحرية الرأي و التعبير قياسا بما كان موجودا في السابق ، و إن كان هذا على ساحة الإنترنت فقط . فأنا مثلا أستعمل خط انترنت تابع للشركة العامة للبريد ( حكومية ) ، و أدخل من خلال هذا الخط إلى المواقع المعارضة و أشارك فيها بآراء قد لا تكون مقبولة من النظام ، و مع ذلك لم يتعرض لي أحد ، و لم توقف عني خدمة الإنترنت حتى الآن . لا شك أن هذا شيء إيجابي قياسا بما اعتدناه ، و نحن نرحب بهذا . كما أن هناك بعض الأقلام المعارضة في الداخل بدأت تمارس حقها في التعبير في كثير من مواقع الإنترنت ، و كثير من هذه الأقلام تجاهر بأنها ليست ثورية و هذا ما لم يكن لتسكت عنه أجهزة القمع سابقاً . كما أبدى البعض اعتراضا علي التوريث الممرر من خلال تنصيب سيف الإسلام منسقاً عاماً للقيادات الشعبية ، و المبرر بتمكين المعني من تنفيذ برنامجه ، برنامج ليبيا الغد . كما ذكرت سابقا أعتبر أن هذه تغيرات إيجابية و أرحب بها من باب ترحيبي بأي انفراج في مجال حرية الرأي و التعبير ، و لكني لا أتوقع من خلالها الكثير ، على خلاف بعض الآراء ذات الظن الحسن . يذهب بعض أصحاب تلك الآراء إلى تقدير الهامش المتاح الآن لحرية التعبير بنسبة 90% ، و بعضهم بدأ حتى بالاحتفال بهذا الهامش و يوجه شكره لهذا و ذاك ، و يصف من لا يحذو حذوه بنكران الجميل و البطر . أستغرب هنا إن كان هؤلاء لا يعلمون بأن هذا الهامش المرتفع و الذي لا يضمن استمراره أحد هو فقط في ساحة الإنترنت لا غير ، بينما لم يتغير الحال أبدا في الساحات الإعلامية الأخرى ، فليس ببعيد قضية استدعاء النيابة لمجموعة من الإعلاميين بسبب إثارتهم لقضايا فساد تتعلق ببعض العاملين في الجهاز التنفيذي للدولة و ذلك في محطة راديو محلية تغطي ببثها مدينة واحدة . كذلك ليس ببعيد المضايقات التي تعرض لها أحد الصحفيين لا لسبب إلا لأنه قام بتغطي صحفية لحدث يتعلق بنزيلات دار الرعايا للبنات . و ليس ببعيد سماعنا عن وجود تعليمات بتأميم شركة الغد للخدمات الإعلامية ، و من ثم أنباء تفيد بالتراجع عن هذه التعليمات ( كما كنت ) ، مع العلم بأن الحاج موسى هو موسى الحاج . و مازال يتم تجريم من يستخدم الوسائل السلمية الحضارية للتعبير عن الرأي مثل الاعتصام و التجمعات و المظاهرات السلمية . و مازال سجناء الرأي السابقين ( ممن أدينوا بآرائهم ) يعتبرون في عداد المغضوب عليهم ، و منهم من تم فصله من عمله ، و منهم من هو ممنوع من السفر باحتجاز جواز سفره كما هو الحال معي أنا شخصيا ، و مع آخرين غيري . و الأدهى من هذا كله مازال هناك سجناء سياسيين داخل المعتقلات . يا سادة كلنا يعلم بأن الولوج إلى شبكة الإنترنت و على وجه الخصوص إلى المواقع المعنية بالشأن السياسي الليبي هو حكر فقط على قلة قليلة من الليبيين في الداخل . و بالتالي لا يخدعنا هذا الهامش المرتفع لحرية التعبير في ساحة تعتبر الأقل قربا و تأثيرا على الرأي العام الليبي من نظيراتها وسائل الأعلام الأخرى و التي لم يتغير حالها كثيراً .

قد يعتقد البعض أن هذه التغيرات هي مقدمة لانفراجات أكبر ، خصوصا مع عودة بعض المعارضين من الخارج ، و انخراط بعضهم في العمل بمؤسسات لها وزنها في الدولة ، و مع التداول الرسمي لمصطلح ( المصالحة الوطنية ) بمفهومها المشوه ، و مع الحديث عن مشروع قانون جديد لمؤسسات المجتمع المدني . قد لا أكون متشائماً إذا اعتقدت بأن طرح مشروع القانون الجديد في هذه الفترة يحمل مؤشراً على أن مشروع الدستور الموعود ( أبو القوانين ) لازال بعيداً ، و ربما صرف النظر عنه . كما أني لا أرى أي مصداقية لما يسمى بالمصالحة الوطنية المطروحة مع استمرار احتجاز أكثر من 500 سجين بدون حكم قضائي ، و مع استمرار اضطهاد أصحاب الآراء المخالفة . كما أني لا أتوقع أن يكون هناك انفراجات يسمح بها النظام إلا بالقدر الذي يسمح باستيعاب شريك محلي غير متطلب ، تقتضي المرحلة القادمة المتصورة وجوده و ( علشان الصورة تطلع حلوة ) .

الواقع الليبي على الأرض لا يشجع على توقع الكثير من النظام أو الثقة في المبادرات التي يطرحها من خلال أجهزته أو من خلال المنظمات المحلية ذات الحظوة لديه . الواقع الليبي لازال يفضح بوضوح عدم احترام السلطة لحقوق الإنسان ، و عدم إدراكها بأن احترام حقوق الإنسان هو الأساس لأي سلم سياسي أو اجتماعي ، و ليس دفع الأموال فقط . حسب اعتقادي نحن لم نصل بعد حتى إلى المنطقة الرمادية حيث تتعدد فيها الآراء و تختلف الرؤى ، بل مازلنا في المنطقة المظلمة رغم بعض الانفراجات البســـيطة . فهناك الكثير من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنســــان ، ابتداءً من حق الإنسان في الحياة و الحرية و سلامة شخصه ، إلى حقه في استقاء المعلومات و الأنباء و تبني الآراء و التعبير عنها ، و إلى حقه في المشاركة السياسية .

رغم كل هذا نحن لم و لن نفقد الأمل في ليبيا المستقبل كما يحب أن يراها أبناؤها المخلصون ، و لم نفقد إيماننا بأننا حتماً سوف نصل إلى نهاية النفق بعون الله ، نسأل الله أن يكون قريبا ذلك اليوم . و نؤكد مطالبنا باحترام حقوقنا التي وهبها الله لنا لنتمتع بها دون فضل أو منة من أحد . و أقــــول كما قال ذلك الرجل الوطـــني المخلص في زنزانته ( مهوّنة يا ليبيا )

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق