الجمعة، 26 مارس 2010

السراب //// أحمد الشلطامي

إنه يجلس وراء الطاولة الحديدية داخل غرفة رمادية رطبة ... يجلس متجهم الوجه ..يجلس بثقه..يتأمل ملفا ويتصفحه ..يعبس ويتطلع حوله بحده .. يستدعي الواقف وراء الباب في الممر ..فاليدخل .. يقول له : قف !! يقول له : إقترب يقول له : إجلس يقول له : قل ما عندك ..يرفع السماعه ويتصل .. ويقول وهو ينظر نحو الجالس أمامه : تابع ويصرخ آخر : قف ! ويتوقف كل شئ فجأه !! يسترخي الجميع ولا يسترخي هو !! لا زال بنفسه شئ من احساس اللحظة السابقة .. ويصرخ آخر : استعدوا !! يجلس ثانية وراء الطاولة الحديدية في الغرفة الرمادية الرطبة .. يزداد وجهه تجهما ويزداد ثقة .. يستدعي بصوت آمر الواقف وراء الباب في الممر .. يأمره أن يقترب .. أن يجلس .. أن يحكي .. ومرة ثانية : قف .. ويتوقف كل شئ ... أما هو يزداد سخونة وتمثلا .. ويجلس مرة اخرى وراء طاولته الحديديه في غرفته الرمادية الرطبة .. وجهه هذه المرة يزداد تجهما ويكتسي صرامة حقيقية مخيفه ... يزداد احساسا بأهميته .. كأن هذه الارض وما فيها له وحده !!! يهدر صوته اذ يستدعي الواقف في الخارج .. يأمره بحده ان يجلس ... يزعق في وجهه ويستعجله كي يحكي .. واضح انه هذه المرة قد اتقن واجبه جيدا .. واضح انه تمرن على اداءه كما يجب .. واضح انه تعلم كيف يتقمص الشخصية الهامة كيف يكون او يعتقد ذلك !! انه الان لم يعد اداة لتجسيد دور الامر الناهي ... فهو هذه اللحظه .. اصبح الامر الناهي نفسه ... واخيرا ...قف انتهى كل شئ !!! يسارع الى سحب الطاولة من امامه .. عامل الديكور .. ويزيل شواربه المهيبه ..المشرف على المكياج.. ويخلع عنه السترة التي ألبسه اياها .. مسؤول الملابس .. ويقول له المساعد : انتهى دورك !! اذهب الى المحاسب وخذ اجرك !! وهو يذعن ويغالب بقايا الشخصية التي تقمصها عليه .. ينسحب نحو بيته حيث يقبع في احد اركانه بانتظار فرصة قد تجئ او لا تجئ !! ذات يوم يجر صاحبنا قدميه الى صالة السينما ... يجلس متحفزا في عتمة الصالة بانتظار رؤيه وجهه الهام على الشاشه .. يجلس ودقات قلبه تتصاعد .. ثم تجئ اللحظه .. يكتشف ان دوره كان قصيرا ..قصيرا جدا ... وان نفخة العظمة التي شعر بها اثناء التصوير ..والتي بقاياها لا زالت عالقه في وجدانه .. لم تعرض على الشاشه الا بضع ثوان !! بالكاد يلاحظها المشاهد!!! وهو يذهل اذ يعرف ان الاخر ذلك الذي كان يقول له : قف ...انتظر .. اجلس ...تكلم ..ذلك الذي هدده وصرخ في وجهه هو بطل الفيلم وشخصيته الرئيسية وهدف تعاطف الجمهور !!! الضوء الذي انار الصالة بعد انتهاء عرض الفيلم يفضح ذهوله .. يحني رأسه ويسير مع الاخرين نحو باب الخروج بحركات آليه .. يقف امام الصالة وفي نفسه شئ من الرجاء .. يلتفت حوله عل احدهم ينتبه الى أنه احد ابطال الفيلم عله يسمع جملة ما تشعره أنه دخل التاريخ ولكنه لا يسمع شيئا من هذا كله ..لا يسمع اي حديث يخصه !! وما سمعه كان حول الاخر ..ذاك الذي كان يقف وراء الباب !!!! حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً .

أحمد الشلطامي - سجين سياسي سابق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق